التعامل مع المتربصين
لا يزال صراع الحق والباطل قائمًا إلى يوم الدين، ولا يزال الذين يتمنَّون القضاء على هذا الدِّين يتمنون فرصة للنَّيل منه والقضاء عليه، ولم يخلُ عهد رسول الله من هؤلاء، بعضُهم يدفعه الجهل، والبعض الآخر يدفعُه حقدٌ مقيت وبُغض للحق وأهله، فكيف تعامَل رسول الإنسانية مع هؤلاء المتربِّصين به وبدين الله، يبغون فتنة في الأرض وإفسادًا؟
ها هي إحدى المواقف نرى فيه حُسن تعامُل القائد والداعية مع المتربِّص به يُريد قتله.
من يمنعُك منِّي؟
في إحدى الغزوات وفي طريق العودة إلى المدينة، نزل الجيش الإسلامي - حين أدركته القائلة - في وادٍ كثير العِضاة - وهو نباتٌ شوكي - فنزل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرَّق النَّاس في العِضاة يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحت سَمُرة، فعلَّق بها سيفه.
قال جابر:
فنِمنا نومةً، ثم إذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالسٌ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ هذا اخترَط سيفي وأنا نائمٌ، فاستيقظتُ وهو في يده صلتًا، فقال لي: مَن يمنعك منِّي؟ قلت: الله، فسقط السَّيف من يده، فها هو ذا جالسٌ))، ولم يعاقبه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم
[1].
وعفا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن هذا الأعرابي، فخُلُق العفو سجيةٌ طبعية في تلك النفس الزكية؛
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
[القلم: 4]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
[الأنبياء: 107] [2].
ماذا كنت تحدث به نفسك؟أراد فَضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتْل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلمَّا دنا منه، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفَضالةُ؟))، قال: نعَم، فضالةُ يا رسول الله، قال: ((ماذا كنت تحدِّث به نفسك))، قال: لا شيء، كنت أذكُر الله، قال: فضحِك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: ((استغفر الله))، ثم وضع يدَه على صدره، فسكَن قلبه، فكان فَضالة يقول: والله ما رفَع يده عن صدري حتى ما مِن خلْق الله شيء أحب إليَّ منه.
رحلة الطائف:
لَما مات أبو طالب، ضيَّقت قريش كثيرًا على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مكة، ونالت من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمِّه أبي طالب، فجعل - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفكِّر في مكان آخرَ يلجأ إليه يجد فيه النُّصرة والتأييد، فخرج إلى الطائف يلتمس من قبيلة ثقيف النصرة والمَنعة، دخل الطائف فتوجَّه إلى ثلاثة رجال هم سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبدياليل بن عمرو، وأخوه مسعود، وحبيب، جلس إليهم، ودعاهم إلى الله، وكلَّمهم لِما جاءهم له: من نُصرته على الإسلام، والقيام معه على مَن خالفه من قومه، وكان ردُّهم بذيئًا!!
أمَّا أحدُهم، فقال: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسَلك!
وقال الآخر: أمَا وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟!
وجعل الثالث يبحث متحذلِقًا عن عبارة يردُّ بها، وحرَص على أن تكون أبلغَ من كلام صاحبيه، فقال: والله لا أردُّ عليك أبدًا، لئن كنت رسولاً من الله - كما تقولُ - لأنت أعظمُ خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلِّمَك.
فقام - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عندهم وقد يَئِس من خير ثقيف، وخشي أن تعلم قريش أنهم ردُّوه، فيزدادوا إيذاءً له، فقال لهم: إن فعلتُم ما فعلتم، فاكتُموا عليَّ، فلم يفعلوا، بل أغرَوْا به سفهاءَهم وعبيدهم، فجعلوا يركضون وراء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسبُّونه ويصيحون به وقد اصطفوا صفَّيْن وهو يُسرع الخُطى بينهم، وكلَّما رفع رِجْلاً رضَخوها بالحجارة، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحاول أن يسرع في خطاه؛ ليتَّقي ما يرمونه به من حجارة، وجعلت قدماه الشريفتان تَسيلان بالدماء وهو الكهل الذي جاوز الأربعين، فأبعد عنهم ومشى حتى جلس في موضع آمنٍ يَستريح تحت ظل نخلة، وهو منشغل البال: كيف ستستقبله قريش؟ كيف سيدخل مكة؟! فرَفع طرَفه إلى السماء، وقال: اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى مَن تكِلني؟! إلى بعيدٍ يتجهَّمني أم إلى عدوٍّ ملكَّته أمري؟!
إن لم يكن بك غضبٌ علي، فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرَقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يَحلَّ عليَّ سخطُك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك، فبينما هو كذلك، فإذا بسَحابة تُظله، وإذا فيها جبريل - عليه السلام - فناداه:
يا محمد، إنَّ الله قد سمِع قولَ قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملَك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم، وقبل أن ينطق - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلمة، ناداه ملَك الجبال: السلام عليك يا رسول الله، يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئتَ، ثم قبل أن ينطق - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو يختار جعل ملَك الجبال يَعرض عليه، ويقول: إن شئت تُطبق عليهم الأخشبين، وجعل ملَك الجبال ينتظر الأمر، إذا به - صلَّى الله عليه وسلَّم - يطأ على حظوظ النفس وشهوة الانتقام، ويقول:
((بل أَستأني بهم؛ فإني أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله لا يشرك به شيئًا))
[3].
--------------------------
[1] البخاري (3822).
[2] السيرة النبوية: صور تربوية وتطبيقات عملية؛ محمد مسعد ياقوت.
[3] استمتع بحياتك؛ د. محمد العريفي.