التعامل مع الأخطاء
لم يكن المجتمع المسلم مجتمعًا ملائكيًّا، وإنما كان مجتمعا قرآنيًّا، يعلمه رسول الله ويُربيه على المنهج القرآني الفريد.
وقد كانت تحدث منه الأخطاء: صغيرها، وكبيرها، فكان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتعامل مع كلِّ موقف، ومع كل خطأ بما يناسبه، فليست كل الأخطاء سواءً، وبالتالي لا يكون العلاج واحدًا.
أراد النبي الكريم أن يضع لنا منهجًا نسترشد به في التعامل مع الأخطاء التي يقوم بها أفراد المجتمع، فعلَّمنا كيف نعلم الناس، متى نعفو عنهم، ومتى نُعاقبهم، متى نتغافل، ومتى نتوقف
نُصحِّح، كما علَّمنا أن نستوثق من وقوع الخطأ أولاً؛ حتى لا نرمي الناس بالظنون، فنُحسن الظنَّ بهم، ثم نقدِّم النُّصح والتوجيه المناسب لكل حالة.
ولنذكر هنا نوعين من الأخطاء تعامَل معهما رسول الله وعلَّمنا كيف يكون العلاج معهما:
الأخطاء الفردية التي لا تؤثر إلا على المخطئ:وقد كان نهجه فيها - صلَّى الله عليه وسلَّم - الرِّفق والحِلْم، والعفو عمن أخطأ عن جهل أو عن سوء فَهْم:
منها ذلك الموقف الذي حدث مع الأعرابي الذي بال في المسجد جاهلاً أنه بيت الله، وأنه مكان عبادة وصلاة!
جلس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا في مجلسه المبارك يُحدث أصحابه، فبينما هم على ذلك، فإذا برجل يدخل إلى المسجد، يلتفت يمينًا ويسارًا، فبدل أن يأتي ويجلس في حلقة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - توجَّه إلى زاوية من زوايا المسجد، ثم جعل يحرِّك إزاره! عجبًا: ماذا سيفعل؟! رفع طرَف إزاره من الأمام، ثم جلس بكل هدوء يبول، عجِب الصحابة وثاروا: يبول في المسجد؟!
وجعلوا يتقافزون ليتوجَّهوا إليه والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُهدئهم ويُسكن غضبهم، ويُردد: لا تَزرموه، لا تَعجلوا عليه، لا تَقطعوا عليه بوله.
والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرى هذا المنظر، بولٌ في المسجد ويُهدئ أصحابه!
حتى إذا انتهى الأعرابي من بوله، وقام يشد على وسطه إزارَه، دعاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكل رِفق، أقبل يمشي حتى إذا وقف بين يديه، قال له بكلِّ رفقٍ: إن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، إنما بُنِيت للصلاة وقراءة القرآن، ففَهِم الرجل ذلك ومضى، فلمَّا جاء وقت الصلاة، أقبل ذاك الأعرابي وصلى معهم، كبَّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأصحابه مصليًّا، فقرأ ثم ركَع، فلمَّا رفَع - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ركوعه، قال: سمِع الله لمن حمِده، فقال المأمومون: ربنا ولك الحمد، إلا هذا الرجل قالها، وزاد بعدها: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا!
وسمعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما انتهَت الصلاة، التفت - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليهم وسألهم عن القائل، فأشاروا إليه، فناداه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما وقف بين يديه، فإذا هو الأعرابي نفسه، وقد تمكن حبُّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قلبه، حتى ودَّ لو أن الرحمة تُصيبهما دون غيرهما، فقال له - صلَّى الله عليه وسلَّم - معلمًا: لقد حجَّرت واسعًا؛ أي: إن رحمة الله تعالى تسَعنا جميعًا وتسع الناس، فلا تضيِّقها علي وعليك.
فانظر كيف ملَكَ عليه قلبه؛ لأنه عرَف كيف يتصرَّف معه، فهو أعرابي أقبل من باديته، لم يبلغ من العلم رُتبة أبي بكر وعمر، ولا معاذ وعمار، فلا يؤاخذ كغيره[1].
وهذا معاوية بن الحكَم السُّلمي، أتى المدينة يسأل الرسول عن خاصة أموره ويتعلم منه، فيحدث معه ذلك الموقف الذي يرويه:
قلت لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إني حديث عهد بجاهلية، فجاء الله بالإسلام، وإن رجالاً منَّا يتطيَّرون، قال: ذلك يجدونه في صدورهم، فلا يصدنَّهم، قال: يا رسول الله، ورجال منا يأتون الكهَنة؟ قال: فلا يأتوهم، قال: يا رسول الله، ورجال منا يخطُّون؟ قال: كان نبي من الأنبياء يخطُّ، فمن وافَق خطُّه، فذاك، قال: وبَيْنا أنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصلاة إذ عطَس رجل من القوم؛ فقلتُ: يرحمك الله، فحدَقني القوم بأبصارهم، قال: فقلت: وَاثُكْلَ أُمِّيَّاه! ما لكم تنظرون إليّ، فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يُسكتوني، لكني سكَت، فلما انصرف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعاني، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، والله ما ضرَبني ولا كهَرني ولا سبَّني، فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن[2].
هذا تعامله مع أعرابي بالَ في المسجد، ورجل تكلَّم في الصلاة، عامَلهم مراعيًا أحوالهم؛ لأن الخطأ من مثلهم لا يُستغرب.
أخطاء تؤثر في الجميع:تلك كانت أخطاء لا خوف منها على المجتمع، فعلَّم رسول الله أصحابها وأرشدهم إلى الصواب في رفقٍ وحِلم، لكن هناك في المجتمع نوع آخر من الأخطاء لا يمكن السكوت عنه ولا التغاضي عن أصحابه؛ لأنَّ لها أثرَها الكبير في المجتمع، "وذلك كأن يحدث خطأ شرعي من أشخاص لهم حيثيَّة خاصة، أو تجاوز الخطأُ حدودَ الفردية والجزئية، وأخذ يمثِّل بداية فتنة أو انحرافٍ عن المنهج، على أن هذا الغضب يكون غضبًا توجيهيًّا، من غير إسفاف ولا إسراف، بل على قدر الحاجة"[3].
-----------------
[1] استمتع بحياتك؛ د. محمد العريفي.
[2] الراوي: معاوية بن الحكَم السُّلمي، المحدث: البيهقي، المصدر: السنن الصغير؛ للبيهقي، الصفحة أو الرقم (1/ 316).
[3] السيرة النبوية؛ د .علي الصلابي.