التعامل مع الأزمات

التعامل مع الأزمات

فاطمة محمد عبدالمقصود العزب

عدد المشاهدات : 14

ها هو مجتمع المدينة الذي وضع له الرسول والقائد العظيم دستورًا، فعلَّم الناس كيف يتعاملون مع غيرهم من أهل الكتاب الذين يجاورونهم، ومع المنافقين الذين يتربَّصون لهم، تحدث فيه أيضًا الأزمات والفتن، ولقد أراد الله ذلك لتكون دروسًا واضحة لنا، نسترشد بها ونستلهمُ منهج التعامل معها، فلا نقف مكتوفي الأيدي عاجزين عن الفعل والحركة، ولقد كانت أشد تلك الأزمات تلك الفتن التي قامت وسعى لها المنافقون، يريدون أن تَنهدم الدولة ويقاتل المسلمون بعضهم بعضًا.

فتنة الأوس والخزرج:فبينا المسلمون على ماء المُرَيْسيع، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غِفار، يقال له جَهْجاه بن مسعود، يقود فرسه، فازدحم جَهْجاه وسِنان بن وبر الجُهني الخزرجي، فاقتَتلا، فصرخ الجُهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جَهْجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبدالله بن أُبي بن سلول، وقال قَولَته: أما والله:

{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}

[المنافقون: 8]

ثم أقبل على مَن حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحلَلْتموهم بلادكم، وقاسَمتموهم أموالكم، أما والله، لو أمسكتُم عنهم ما بأيديكم، لتحوَّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيدُ بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك عند فراغ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عدوِّه، فأخبره الخبر،

وعنده عمر بن الخطاب، فقال:

مُرْ به عباد بن بشر، فليقتله، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا، ولكن آذن بالرحيل))

وذلك في ساعةٍ لم يكن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرتحل فيها، فارتحل الناس.

وقد مشى عبدالله بن أُبي بن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمِع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلَّمت به.

وكان في قومه شريفًا عظيمًا، فقال مَن حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يَحفظ ما قال الرجل؛ حدَبًا على ابن أُبي بن سلول، ودفعًا عنه.

ولما التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأُسيد بن حُضير، قال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:

((أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟))، قال: وأيُّ صاحبٍ يا رسول الله؟ قال: ((عبدالله بن أُبي))؛ قال: وما قال؟ قال: ((زعم أنه إن رجع إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ))، قال: فأنت يا رسول الله، واللهِ تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليلُ وأنت العزيز، ثم قال يا رسول الله: ارفُق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنَّ قومه لينظمون له الخَرَز ليتوِّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلَبته ملكًا.

ثم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومَهم ذلك حتى أمسى، وليلتَهم حتى أصبح، وصدر يومَهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسَّ الأرض، فوقعوا نِيامًا، وإنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله بن أُبي، وجاء عبدالله بن عبدالله بن أبي إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتْل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً، فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجلٍ أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمرَ به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتلَه فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:

((بل نترفَّق به، ونُحسن صُحبته ما بَقِي معنا))

 ابن هشام (2 / 291).

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يُعاتبونه، ويأخذونه، ويعنِّفونه،

فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: ((كيف ترى يا عمر! أمَا والله لو قتلتُه يوم قلتَ لي: اقتله، لأرعدتْ له أنوف لو أمَرتها اليوم بقتله، لقتلتَه))، قال عمر: قد والله علمتُ لأمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ بركةً من أمري.

ابن هشام (2 / 292).

وهي قصة تُظهر لك حكمة منقطعة النظير، بعد نظر وصبرٍ؛ فبحكمته - صلَّى الله عليه وسلَّم - جنى تعاطُف عشيرة ابن أُبي، وفي بُعد نظره رأيت ما قال عمر، وفي صبره رأيت كيف سكت حتى تكلَّم القرآن، ففضح عدوَّ الله ابنَ أُبيِّ.