مراعاة الطبيعة البشرية: الكلام المناسب
يعلِّمنا الرسولُ القدوة أنَّ لكل كلام وقتًا ومناسبة، وليس أيُّ كلام يصلح في أي وقت، ويوضح لنا من خلال مواقفه العملية الراقيةِ كيف نكون رُحَماء بالناس؛ من خلال الكلمة الطيبة التي تراعي مشاعرَهم، وتقدِّر احتياجاتهم، فنكون لهم سندًا وعونًا في صحراء الحياة القاسية.
ولنا أن نتأمَّل في هذا الموقفِ كيف أحس رسول الله بما يحتاجه جابر بن عبدالله من دعمٍ معنويٍّ وماديٍّ بعد عودته متعبًا من غزوة ذات الرِّقاع "وجابرٌ - رضي الله عنه - أهلٌ لهذه العناية في هذه الأيام بالذات؛ فقد قُتل أبوه في معركة (أُحدٍ)، وهو سيدٌ من سادات الأنصار، وقد خلَّف وراءه تبعةً ثقيلة تَحمَّلها ابنه الأكبرُ هذا وحده، وترك الأبُ لولده مهمةَ رعاية البنات اليُتَّم، وقد بلغ عددهن سبعًا، على فقر وشظَف، وكان أجدر بغير جابرٍ أن يتخلف عن مثل هذه الغزوة؛ متعللاً بهذه المسؤولية الأُسَرية الصعبة، ولو تخلف مثلُ جابر لكان له في ذلك ألفُ عذر، ولكنها أسرة مسلمةٌ مجاهدة، ورَبُّها مجاهدٌ ابن مجاهد، ومن يشابهْ أباه فما ظلم"([1]).
لقد رقَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو صاحبُ القلبِ الرؤوف - لحال جابر وآل جابر وبيت جابر، فيبدو أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يلحظه بعينِ رحمته الشفيقة بين الفينة والأخرى، كما ينظر أحدنا لولده شفقةً من حينٍ إلى آخر؛ حتى لم يجده مرَّةً في صفوف الجيش، وقد جعل الجيش يمضي وجابرٌ يتأخرُ به جملُه العليل، ويكأنَّ العلةَ قد أصابتْ جابرًا في كل بيته حتى جملِه!
فإذا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُدرك ذلك، فيؤخرُ جمله؛ ليلحق بجابر في آخرِ الجيش، فأدركه، وعلم ما حلَّ بجمله من علة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعطني هذه العصا من يدِك))، قال جابر: فنخَسَه بِها نخَسَات، ثمَّ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اركَبْ))، فركبْتُ، فخرج والَّذي بعثه بالحقِّ يُوَاهِقُ ناقتَهُ مُوَاهَقةً!
ثم دار هذا الحديث الرقيق الرفيق، الذي يعبِّر عن نفس زكية عظيمة، كانت بين جنبَيْ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبيِّن لك كيف كان حرصُه على المؤمنين، وكيف كان يتذرَّع الذرائع من أجل أن يخدمهم، ويصنعُ الصنائع من أجل أن يُكرمهم:
قال رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((أتبيعُني جملَك هذا يا جابرُ؟))، قال جابر: يا رسُولَ اللَّه، بل أهَبُهُ لك؟ قال: ((لا، ولكنْ بِعْنِيهِ))، قال جابر: فَسُمْنِي بِهِ، قال: ((قد قلتُ: أخذْتُهُ بدرْهمٍ))، قال: لا، إِذًا يَغْبنُنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَالَ: ((فبدرهميْنِ))، قال جابر: لا. ولم يزل هذا الحديث الفكِهُ هكذا، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرفع له في سعر الجمل حتى بلَغ الأُوقِية، فقال جابر: فقد رضِيتُ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قد رضِيتَ؟))، قال: نعَم، هو لك، قال: ((قد أخذتُهُ)).
ثم انتقل الحوار الكريمُ إلى مجال آخر، وقد تحدَّث النبي إلى جابر كما يتحدَّثُ أحدنا إلى أخيه أو صديقه حديث َالرجل للرجل، مع ظُرف وطُرف ولُطف:
فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجابر:
((يا جابرُ، هل تزوَّجتَ بعدُ؟))، قال: نعم يا رسولَ اللَّهِ، قَالَ: ((أثيِّبًا أم بِكرًا؟))، قال: بل ثيِّبًا، قال: ((أفلا جاريةً، تلاعبُها وتُلاعبُك؟))، قال: يا رسولَ اللَّهِِ، إِنَّ أبي أصيبَ يوم أحدٍ، وترك بناتٍ له سبعًا، فنكحْتُ امرأةً جامعةً؛ تجمعُ رؤوسهنَّ، وتقومُ عليهنَّ، قال: ((أصبتَ إن شاء اللَّهُ)). ثم قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أما إنَّا لو قد جئنا صِرَارًا [موضع قرب المدينة] أمرْنَا بجزورٍ فنحِرتْ، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعتْ بنا، فنفَضتْ نمارقَها))، قال: واللَّهِ يا رسولَ اللَّه، ما لنا من نمارقَ! قال: ((إنها ستكونُ، فإذا أنت قدمتَ، فاعمل عملاً كيِّسًا)). {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]. قال جابر: فلمَّا جئنا صرارًا، أمَرَ رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بجزورٍ فنُحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلمَّا أمسى رسول اللّه - صلّى الله عليه وسلّم - دخل، ودخلنا، فلمَّا أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به؛ حتَّى أَنخْتُه على باب رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمَّ جلست في المسجد قريبًا منه، وخرج رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرأى الجمل، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: يا رسول اللَّه، هذا جملٌ جاء به جابرٌ، قال: ((فأين جابرٌ؟))، فدُعِيت له، قال: ((تعالَ، أي يا بن أخي، خذ برأس جملِك، فهو لك)). فدعا بلالاً، فقال: ((اذهب بجابرٍ، فأعطه أوقيّة))، فذهبت معه فأعطاني أُوقيّة، وزادني شيئًا يسيرًا. قال جابر: فواللّه ما زال ينمي عندنا، ونرى مكانه من بيتنا
([2]).
ولا تنقضي مواقف الرسول الرحيم الرؤوف بأمته، وبسائر بني البشر، فهي مدرسة تحتاج أن نلِجَها صُبحًا ومساءً؛ كي نأخذ زادًا يعيننا على السير على طريق الحق والخير؛ طريقِ الرسول الكريم.
----------------------------------------
[1] - السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية؛ محمد مسعد ياقوت.
[2] - أحمد: 14495، شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن.