ليسوا فراراً ولكنهم الكرار

ليسوا فراراً ولكنهم الكرار

فاطمة محمد عبدالمقصود العزب

عدد المشاهدات : 16

في السنة الثامنة من الهجرة جمع الروم جيشًا، وأقبل من جهة الشام لقتال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، بدأ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجهز جيشًا لإرساله إليهم، فلم يزل يحثُّ الناس حتى جمع ثلاثة آلاف، فزوَّدهم بما وجد من سلاح وعتاد، قال لهم: أميرُكم زيد بن حارثة، فإن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، ثم خرج معهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يودِّعهم، وخرج الناس يودِّعون الجيش ويقولون: صحِبكم الله، ودفع عنكم، وردَّكم إلينا صالحين.

ثم مضى الجيش حتى نزلوا "مَعان" من أرض الشام، فبلَغهم أن هرقل - ملك الروم - قد نزل من أرض البَلْقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضمَّ إليه من القبائل حوله مائةُ ألف، فصار جيش الروم مائتي ألف، فلمَّا تيَّقن المسلمون من ذلك، أقاموا في "مَعان" ليلتين ينظرون في أمرهم، فقال بعضهم: نكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نخبره بعَدد عدوِّنا، فإما أن يُمدَّنا بالرجال، أو يأمرنا بما يشاء، فنمضي له، وكثُر كلام الناس في ذلك، فقام عبدالله بن رواحة، ثم صاح بالناس، وقال: يا قوم، والله إنَّ التي تكرهون، هي التي خرجتم تطلبون، الشهادة في سبيل الله، تفرُّون منها، وما نقاتل الناس بعَدد ولا قوَّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرَمنا الله به، فانطلِقوا فإنما هي إحدى الحُسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فمضى الناس يسيرون، حتى إذا دنَوْا من جيش الرُّوم في موقعة: "مؤتة"، فإذا أعداد عظيمة لا قِبَل لأحدٍ بها.

قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: شهِدت يوم "مؤتة"، فلمَّا دنا منا المشركون، رأينا ما لا قِبَل لأحدٍ به من العدَّة والسلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبَرِق بصري، فقال لي ثابتُ بن أرقم: يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعًا كثيرة؟ قلت: نعم، قال: إنك لم تشهد بدرًا معنا، إنا لم نُنصر بالكثرة، ثم التقى الناس، فاقْتَتلوا، فقاتَل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى كثُرت عليه الرماح، وسقط صريعًا شهيدًا، فأخذ الرايةَ جعفر - بكلِّ بطولة - فاقتحَم عن فرس له شقراءَ، فجعل يقاتل القوم.

أخذ جعفر اللواء بيمينه فقُطِعت، فأخذ اللواء بشماله فقُطعت، فاحتضَنه بعَضُدَيْه حتى قُتِل - وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة - قال ابن عمر: وقفت على جعفرٍ يومئذ وهو قتيل، فعدَدت به خمسين: بين طعنة، وضربة، ليس منها شيءٌ في دُبره، فأثابه الله بذلك جَناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء.

إنَّ رجلاً من الروم ضرَبه يومئذ ضربة فقطعته نصفين، فلمَّا قُتِل جعفر، أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعَل يَستنزل نفسه، ويتردَّد بعض التردُّد، ويقول:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ = طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ

إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ = مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ

ثم قال:

يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِي تَمُوتِي = هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ = إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ

ثم نزل، فلمَّا نزل أتاه ابنُ عم له بعرقٍ من لحم، شُدَّ بهذا صُلْبك؛ فإنك قد لقِيت في أيامك هذه ما لقِيت، فأخذه من يده، فانتهش منه نَهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! فألقاه من يده، ثم أخذ سيفَه ثم تقدَّم، فقاتَل حتى قُتِل - رضي الله عنه - فوقعت الراية، واضْطَرب المسلمون، وابتهج الكافرون والراية تطؤها الخيل ويعلوها الغبار، فأقبل البطلُ ثابتُ بن أرقم، ثم رفعها، وصاحَ: يا معاشر المسلمين، هذه الراية فاصطلحوا على رجلٍ منكم، فتصايَح مَن سمِعه وقالوا: أنت، أنت، قال: ما أنا بفاعل، فأشاروا إلى خالد بن الوليد، فلمَّا أخذ الراية، قاتَل بقوَّة، حتى إنه كان يقول: لقد اندقَّ في يدي يومَ مؤتة تسعة أسياف، فما بقِي في يدي إلا صفيحة يمانية ثم انحاز خالد بالجيش، وانحاز الروم إلى معسكرهم.

خشِي خالد أن يرجع بالجيش إلى المدينة من ليلته، فيتبعهم الروم، فلمَّا أصبحوا غيَّر خالد مواقع الجيش، فجعل مقدِّمة الجيش في المؤخرة، وجعل مؤخرة الجيش مقدمة، ومن كانوا يقاتلون في يمين الجيش أمرَهم بالانتقال إلى يساره، وأمَر مَن في الميسرة أن يذهبوا للميمنة، فلمَّا ابتدأ القتال وأقبَل الروم، فإذا كلُّ سرية منهم ترى راياتٍ جديدة ووجوهًا جديدة، فاضطرب الروم وقالوا: قد جاءهم في الليل مدَدٌ، فرُعِبوا في القتال، فقتل المسلمون منهم مقتلةً عظيمة، ولم يُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وانسحب خالد بالجيش آخرَ النهار من ساحة القتال، ثم واصل مسيره نحو المدينة، فلمَّا أقبلوا إلى المدينة، لقِيَهم الصبيان يتراكضون إليهم، ولقِيَتهم النساء، فجعلوا يَحثُون التراب في وجوه الجيش، ويقولون :يا فُرَّار، فرَرتم في سبيل الله، فلما سمِع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك، علِم أنهم لم يكن أمامهم إلا ذلك، وأنهم فعلوا ما بوسعهم، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - مدافعًا عنهم:

((ليسوا بالفُرَّار، ولكنَّهم الكُرَّار - إن شاء الله عز وجل))

نعم، انتهى الأمر، وهم أبطال ما قصَّروا، لكنَّهم بشَرٌ، والأمر كان فوق طاقتهم.